فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (8):

{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، مَعْنَى: وَيَدْرَأُ: يَدْفَعُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الْحَدُّ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ فَاعِلُ يَدْرَأُ، أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهَا الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْحَدُّ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: مِنْهَا سِيَاقُ الْآيَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي تَدْرَؤُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هُوَ الْحَدُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْعَذَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، عَلَى الْحَدِّ مَعَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِيهَا الْحَدُّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [24/ 2]، فَقَوْلُهُ: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا أَيْ: حَدَّهُمَا بِلَا نِزَاعٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [4/ 25]، أَيْ: نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَمَى زَوْجَتَهُ وَشَهِدَ شَهَادَاتِهِ الْخَمْسَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ الْمُتَوَجِّهَ إِلَيْهَا بِشَهَادَاتِ الزَّوْجِ تَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هِيَ الْمُوَضَّحَةُ فِي الْآيَةِ.
وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ نَكَلَتْ عَنْ شَهَادَاتِهَا، لَزِمَهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ نُكُولِهَا مَعَ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَشَهَادَاتُ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ تَدْرَأُ عَنْهُ هُوَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهَا هِيَ حَدَّ الزِّنَى، وَتَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا.
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، فَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [24/ 4]؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ خُرُوجَ الزَّوْجِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِشَهَادَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [24/ 6- 7]، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ جَلْدِ ثَمَانِينَ، وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُكْمِ بِالْفِسْقِ إِلَّا بِشَهَادَاتِهِ الَّتِي قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الْمُبَرِّئَةِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ شَهَادَاتِهِ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَدْرَأْ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِهِ، وَلَا شَهَادَاتٌ تَنُوبُ عَنِ الشُّهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا نَكَلَتْ عَنْ أَيْمَانِهَا فَعَلَيْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ هُوَ شَهَادَاتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الْآيَةَ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِنْ نَكَلَ عَنِ الشَّهَادَاتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، ومَنْ قَالَ بِأَنَّهَا إِنْ شَهِدَ هُوَ، وَنَكَلَتْ هِيَ أَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ وَنُكُولِهَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِنُكُولِهَا عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَتُحْبَسُ أَيْضًا حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ فَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحُجَجٍ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حَدِّهَا أَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ وَنُكُولَهَا هِيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بِهِمَا مُجْتَمِعِينَ ثُبُوتُ الزِّنَى عَلَيْهَا.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ اللِّعَانِ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُعْدَلُ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَلْزَمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِلَّا بِقَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ قَذْفًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ زَوْجَةٍ كَرَمْيِهَا بِالزِّنَى، وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنْهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ قَذْفُهَا بِالزِّنَى مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، أَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اللِّعَانُ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى كَافٍ دُونَ التَّصْرِيحِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ.
وَقَوْلُ الْمَلَاعِنِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي، دُونَ اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَسَمَاعِ الْأُذُنِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [24/ 6] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، هَلْ هِيَ شَهَادَاتٌ أَوْ أَيْمَانٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا شَهَادَاتٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي الْآيَةِ شَهَادَاتٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ، إِلَّا مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُلَاعِنِ وَالْمُلَاعِنَةِ الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ صَحَّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَلَوْ كَانَا لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُسْقِطَاتِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ، فَعَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَكُونُ الزَّوْجُ رَابِعَ الشُّهُودِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، وَعَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: لَا يُحَدُّونَ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ وَأَنَّ اللِّعَّانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الزَّوْجِ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ رُبَّمَا أُطْلِقُ فِي الْقُرْآنِ، مُرَادًا بِهَا الْيَمِينُ، مَعَ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ لِأُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ لِأَنَّ لَفْظَةَ بِاللَّهِ يَمِينٌ فَدَلَّ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِلتَّصْرِيحِ بِنَصِّ الْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ فِي مَعْنَى: أُقْسِمُ بِاللَّهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ وَإِرَادَةُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [5/ 107]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [5/ 108]، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ [63/ 1]؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [63/ 2]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَهَادَتِهِمُ الْأَيْمَانُ، هَكَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَالْفَيْصَلُ أَنَّهَا يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنَّ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ، مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ، اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ.
وَحَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ اسْتِقْرَاءً تَامًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَهَادَةُ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ؛ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَدَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَا يُسَوِّغُ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِإِطْلَاقِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا.
الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ اللِّعَّانِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا جَاءَتِ الْمُلَاعَنَةُ بِالْوَلَدِ شَبِيهًا بِالَّذِي رُمِيَتْ بِهِ «: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانًا، وَفِي إِسْنَادِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا شَهَادَاتٍ فِي قَوْلِهِ:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ «: أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمُ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ»، اهـ، قَالُوا: إِنَّمَا مُنِعَ لِعَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَاتُ اللِّعَانِ أَيْمَانًا لَصَحَّ لِعَانُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تُقْبَلُ يَمِينُهُ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ، فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَقَالَ: عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «: أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ»، انْتَهَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْوَقَّاصِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، قَالَ: وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَتَابَعَهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ «: أَلَّا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ» فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ، انْتَهَى، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ الرَّمْلِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: أَرْبَعَةٌ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمُ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَعْرُوفٌ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَابْنُ زَرَيْعٍ ضَعِيفَانِ، وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَاهُ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَوْقُوفًا، وَفِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ رَاوِيَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَمْرُو بْنُ هَارُونَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَحْتَجُّ بِرِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُؤَكِّدُهُ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقًا صَحِيحًا إِلَى عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ نَصْبِ الرَّايَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، وَلَوْ فَرَضْنَا جَوْدَةَ إِسْنَادِهِ كَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ؛ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ عَدَمِ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ بَيْنِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللِّعَانِ، الِاعْتِمَادُ عَلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَسْوَدَ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ وَزَوْجُهَا أَبْيَضَ؛ لِقِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ الْأَسْوَدِ بِاللِّعَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: مَا أَلْوَانُهَا»؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ»؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا الْوُرْقَةُ»؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهَا، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ»، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَوَادَ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلرَّجُلِ فِي اللِّعَانِ، كَمَا تَرَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّهُ يُجْلَدُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ أَجْنَبِيَّةٌ مُحْصَنَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ [24/ 4]، وَالزَّوَاجُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ قَبْلَهُ، فَمَا يُرْوَى عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا مِنْ نَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا، وَلَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، وَأَمَّا الْبِنْتُ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} إِلَى آخِرِ آيَاتِ اللِّعَانِ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ إِنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ الْبِنْتَ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ، أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ: وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبِنْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ، اهـ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ لَهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَلَا لِعَانَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ لَنَا سُقُوطُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُحَدُّ إِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَيُلَاعِنُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَنَّ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ قَدْ وَجَبَا وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِالزِّنَى الطَّارِئِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ سُقُوطُ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ، لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْإِحْصَانِ قَبْلَ الْحَدِّ وَقَبْلَ اللِّعَانِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِكِبَرِ سِنِّهَا أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَهِيَ لِدَرْءِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا إِنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِصِغَرِهَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ: هَلْ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَلَمْ تَبْلُغْ؟ فَعَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي قَذْفِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا فَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ فِي قَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ لِنَفْيِ مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَيَنْتَفِي عَنْهُ حَمْلُهَا بِاللِّعَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَحَادِيثَ اللِّعَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ» إِلَخْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ، يَعْنِي الرَّجُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا»، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَفْخَةً.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ، وَدَفْعِ حَدِّ الرَّجْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلِذَلِكَ شُرِعَ اللِّعَانُ مَعَ الْآيِسَةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغِيرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَهَا فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ دُونَهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْتِعَانَ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ لِقَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي حَدِّ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ لِلْوَطْءِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تُلَاعَنُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَيَقَّنُ وُجُودُهُ قَبْلَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاخًا وَقَدْ يَكُونُ رِيحًا.
وَالثَّانِي: هُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ لِعَانَ الْحَامِلِ حَتَّى وَضَعَتْ. فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا نَصُّهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: اللَّهُمَّ بَيِّنْ»، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَتَرْتِيبُهُ فَلَاعَنَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ، إِلَخْ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْفَاءِ، وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إِلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ أَوْضَحَتْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ هِيَ فِي الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَاعَنَ مُعَقِّبَةً لِقَوْلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ جُمْلَةَ «فَلَاعَنَ» مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعِنُ قَبْلَ الْوَضْعِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَذْفُهُ لَهَا بِنَفْيِ حَمْلٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، وَأَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَى بَعْدَ الطَّلَاقِ حُدَّ، وَلَمْ يُلَاعَنْ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ إِلَى زَمَنٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَالْأَظْهَرُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ إِيَّاهَا قَبْلَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللِّعَانَ وَيُجْلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يُلَاعِنُ الرَّجْعِيَّةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ، وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَزَيْدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَائِبًا فَتَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مَغِيبِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيُطَلِّقَهَا فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَقْدَمُ فَيَنْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا هُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا وَنَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَيَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، اهـ مِنْهُ، وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نَظَرَتْ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يُخَافُ تَعَلُّقُهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِلَعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَفَائِدَةُ لَعَانِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَوْنُ الرَّجْعِيَّةِ كَالزَّوْجَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تُزَوُّجُ أُخْتِهَا، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَزْوِيجُ رَابِعَةٍ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَامِسَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِلِعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا عَالِمًا بِزِنَاهَا فِي زَعْمِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ لِلِّعَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، مَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذِفٌ؛ لِأَنَّهُ رَمَاهَا بِزِنًى وَاقِعٍ بَعْدَ الْفِرَاقِ أَوْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ.
أَمَّا إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَةٌ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ: يُجْلَدُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ هَذَانَ بِزَوْجَيْنِ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ ظَهَرَ بِامْرَأَتِهِ حَمْلٌ، وَهُوَ قَائِلٌ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ حَتَّى وَضَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مُدَّةَ الْحَمْلِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوِ انْتِفَاخًا فَيَنْفَشُّ أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَيَسْتَرِيحَ بِذَلِكَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ بِلِعَانٍ بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي أَبْدَى وَجِيهٌ جَدِيرٌ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ بَادَرَ بِنَفْيهِ فَوْرًا عِنْدَ وَضْعِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ السُّكُوتِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لِأَنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ يُعَدُّ رِضًى مِنْهُ بِالْوَلَدِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ.
لَمْ أَعْلَمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَهُوَ رَاضٍ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى أَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْتَبِرُ مُدَّةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ النِّفَاسِ، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَاسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَيُفَكِّرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلتَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يُنَزَّلُ السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ، بِقَوْلِهِ:
وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ ** فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ قَدِ اشْتُهِرَ

فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِيِّ نَمَى ** تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا

وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي ** مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ

فَمَنْ قَالَ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ السَّاكِتَ قَدْ يَسْكُتُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِضَاهُ وَاسْتَأْنَسُوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْرِ «: إِذْنُهَا صِمَاتُهَا»، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَخْصِيصُ الْبِكْرِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ وَأُصُولِهِمْ، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهُمْ وَجَدَهُمْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْعَلُونَ السُّكُوتَ كَالرِّضَى، كَالسُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ زَمَنًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ، وَكَالسُّكُوتِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكْثُرُ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَعْلُ السُّكُوتِ كَالرِّضَى.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي رَجَزِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ:
وَحَاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ ** وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ

الْحُكْمُ مَنْعُهُ الْقِيَامَ بِانْقِضَا ** مَجْلِسِهِ إِذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَى

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ السُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ زَمَنًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ عَادَةً أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ فِيهِ إِلَّا رَاضٍ عُدَّ رِضًى، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُحَكَّمٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَقَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَى إِنْ كَانَ لِنَفْيِ نَسَبٍ يَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ يُلَاعَنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَكِنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى، وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا وَيَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ مَجْرَى اللِّعَانِ فِيهِ، اهـ مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ، بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي الَّذِي يَقْذِفُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ بِالزِّنَى، ثُمَّ يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ مَعَ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ لَا تُفِيدُ الزَّوْجَ إِلَّا دَرْأَ الْحَدِّ عَنْهُ، أَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ شُهُودِهِ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ كَانَ لَهُ شُهُودٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي غَيْرِ دَرْءِ الْحَدِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ اللِّعَانُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ غَيْرَ نَفْسِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} اهـ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ: يَفْتَقِرُ اللِّعَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَدَدُ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَكَانُ: وَهُوَ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلَ الْوَثَنِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَالْوَقْتُ: وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَجَمْعُ النَّاسِ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ وَجَمْعُ النَّاسِ مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ، اهـ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ كَافِرِينَ وَبَعْضُ مَا ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ خِلَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِلِعَانٍ، إِلَّا بِمُوجِبٍ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ زَنَتْ، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ أَصْلًا، أَوْ زَنَتْ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ، وَلَمْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى زَنَتْ، أَوْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الزِّنَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزِّنَى الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ عَلَى شَبَهِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ وَلَا بِسَوَادِ الْوَلَدِ؛ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا بِعَزْلٍ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ نَزْعَهُ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَلَا بِوَطْءٍ فِي فَخِذَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ إِلَى الْفَرَجِ فَتَحْمِلُ مِنْهُ، كَمَا قَدَّمْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا تَوْأَمَانِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ أَحَدِهِمَا، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُ الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالثَّانِي حُدَّ لِقَذْفِهِ؛ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [13/ 8]، أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُمَا تَوْأَمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ تَوْأَمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَاسْتَحْلَقَ أَحَدَهُمَا، وَنَفَى الْآخَرَ لَحِقَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ، وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنِ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ لَحِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى أَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَا نَفَيْتُمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ.
قُلْنَا: لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ لِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتِ الْوَطْءُ وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ، وَيُحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَقَدْ لَاعَنْ لِنَفْيِهِ مَرَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِعَانَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُغْنِي مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ لَحِقَاهُ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ، فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا: وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَا يُلَاعِنُ إِلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ كَالْحَيِّ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، اهـ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُرَادُ نَفْيُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَدٌ كَانَ حُكْمُهُ فِي اللِّعَانِ كَحُكْمِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ الْحَيَّ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ أَبِيهِ، فَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ نَسَبِ الْمَيِّتِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُهُ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَاشَ عُمْرًا يُولَدُ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِالْغَيْبَةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ إِلْزَامُهُ بِتَكْفِينِ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ بِلِعَانٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفُ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْحَدِّ فَلَهُ اللِّعَانُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ فَلَا لِعَانَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِهِ مُوجِبَانِ لِلَعَّانِ، وَهُمَا إِسْقَاطُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ النَّظَرِ إِلَى الْوَلَدِ الْمَيِّتِ هَلْ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَا؟ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِاللِّعَانِ، هَلْ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ؟ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هُمَا شَقِيقَانِ، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي التَّوْضِيحِ، وَهُوَ شَرْحُهُ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: إِنَّ كَوْنَهُمَا شَقِيقَيْنِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، كَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ وَالْمُغْتَصَبَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وَأَنَّهُمَا لَا يُحْكَمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الشَّقِيقَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُلْحَقَانِ بِأَبٍّ مَعْرُوفٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌّ مَعْرُوفٌ فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِمَا شَقِيقَيْنِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إِنَّمَا يُنْسَبَانِ لِأُمِّهِمَا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ شَقِيقَانِ، فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ حَتَّى يَكُونَ أَبًا لِابْنِهِ مِنَ الزِّنَى، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَحْوِ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ظَاهِرُهَا السُّقُوطُ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ مِنْ أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمَسْبِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْمَنَةِ شَقِيقَانِ، فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ قَائِلًا: إِنَّهَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ لِعَانُهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ يُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا وَقْتَ الزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًى أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إِلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى نَفْيِهِ، وَهَاهُنَا إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنَ الزِّنَى، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى نَفْيِهِ، اهـ مِنَ الْمُغْنِي.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَا يُمَكَّنِ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ، وَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ، لِأَنَّهُ قَاذِفُ مُحْصَنَةٍ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَالنِّكَاحُ الطَّارِئُ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الَّذِي تَقَرَّرَ قَبْلَهُ كَمَا تَرَى، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَلْحَقُ بِهِ لَوْ سَكَتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ اسْتِنَادًا إِلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسَوِّغَةِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا لِدَفْعِ الْحَدِّ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ، فَقِيلَ: يُلَاعِنُ، وَقِيلَ: لَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَيْنُونَةِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: نَقَلَ مُهَنَّأٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: يُلَاعِنُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُحَدُّ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، قَالَ: بِئْسَ مَا يَقُولُونَ فَهَذَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ، اهـ مِنْهُ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَصَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَى.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِتَصَادُقِهِمَا بِدُونِ لِعَانٍ، أَوْ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنِ الزَّوْجِ إِلَّا بِلِعَانِهِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِ أُمِّهِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ بِصِدْقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَطَالَبَتْ بِحَدِّهِ لِقَذْفِهَا فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِيرِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، فَمَنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ يَلْزَمُ قَوْلَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُحَدُّ لِقَذْفِهَا؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَى ثَبَتَ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهَا لَمْ يَثْبُتْ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا إِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا أَعْنِي الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِقَذْفِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا صَارَا لَهُ عَدُوَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ يَسْتَوْجِبُ الْعَدَاوَةَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ، وَقَذَفَنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا، وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا فَإِنْ أَضَافَا دَعَوَاهُمَا إِلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَانِعِ كَظُهُورِ الْفِسْقِ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا فَتَبِينُ وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا.
وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى نَفْسِهِمَا نَفْعًا، اهـ مِنَ الْمُغْنِي، وَكُلُّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِجَرِّ النَّفْعِ لِأُمِّهِمَا، لِأَنَّ طَلَاقَ الضَّرَّةِ فِيهِ نَفْعٌ لِضَرَّتِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ أُمَّهُ لَا تَخْلُو مِنْ تُهْمَةٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: فِي اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْقَذْفِ أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ; لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسَ بِقَذْفِهَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ فَلَمْ يُؤَثِّرِ الِاخْتِلَافُ؛ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْآخَرُ: لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَثْبُتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَفَارَقَ الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِهِ وَاحِدًا أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ، انْتَهَى مِنَ الْمُغْنِي.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ تُلَفَّقُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَوْ لَا تُلَفَّقُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ تُلَفَّقُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تُلَفَّقُ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَقَوْلُهُمْ: هُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ الْمُخْتَلِفُ وَقْتُهُ أَوْ لِسَانُهُ هُمَا إِقْرَارَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَصَّ فِيهَا وَكُلٌّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَعَدَمُ النَّصِّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِلِعَانٍ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِعَانٌ آخَرُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَوْلَ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الْوَضْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا خِلَافَ التَّحْقِيقِ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَقِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى عَنْهُ حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ لِعَانَهُ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ عَنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِاللِّوَاطِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ اللَّائِطِ وَبَيَّنَّا أَنَّ أَقْوَاهَا دَلِيلًا قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَدَّ بِالْقَذْفِ بِاللِّوَاطِ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُلَاعِنُ الْقَاذِفُ بِاللِّوَاطِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ حُدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ كَامِلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَكَوْنِ الزَّوْجِ صَبِيًّا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَادَةً لِصِغَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ، وَبِهِ تَعْل مُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ: إِنَّ الزَّوْجَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَكَذَلِكَ تِسْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِحَدِيثِ «: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشَرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَإِنِ اعْتَمَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مَعَ عِلْمِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
فَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ حَتَّى يَبْلُغَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً، أَوْ عَكْسُهُ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ وَمُدَّةِ الْحَمْلِ أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ لَحِقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ، انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمُ لُحُوقِ الْوَلَدِ فِيمَا ذُكِرَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ لِنَفْيِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، انْتَهَى.
وَقَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ «: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا»، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي الْمُنْتَقَى، وَقَالَ فِيهِ صَاحِبُ نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَفِي إِسْنَادِهِ عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: فِيهِ لِينٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، اهـ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا»، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ أَيْضًا.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ نَيْلِ الْأَوْطَارِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِي إِسْنَادِهَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَخْرَجَهُمَا أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ، وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَحُدَّ خِلَافًا لِعَطَاءٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ.
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الْآيَةَ [2/ 229]، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ مَسَائِلِ اللِّعَانِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ،